(7)
مكتب كبير وفخم جداً في الطابق الأخير من مبنى مكون من أربعة طوابق
، تزينه نوافذ عملاقة تبدأ من أول الأرضية إلى السقف وتفصل بين كل نافذة عمود لا
يتجاوز المتر الواحد .
وقف صاحب ذلك المكتب ينظر عبر النافذة المطلة على البحر
شارد الذهن ساخط النفس .
إن الدولة تريد تمكين المرأة وبقوة في المناصب القيادية
، ألم تعلم أن فساد كل وزارة ودمارها عندما تستلم فيه امرأة منصب قيادي ، ألم
يأخذوا العبرة من وزارة الصحة ووزارة التعليم عندما دمرت سياستهن بعد تولي امرأتان
تلك المناصب وتم بعدها عزلهن ، وكم تكلفت الدولة عند استدعاء الخبراء من أنحاء
المعمورة لكي يعيدوا المياه لمجاريها ، ولا زالت تلك الوزارتان تعاني من الخلل إلى
يومنا هذا .
ما هذه السياسة ؟ ، المرأة مقرها المنزل مربية للأجيال وصانعة
الأجيال وليست صانعة القرارات وقائدة وزارت ، كم هي المناصب التي استلمتها نساء
وصار مصير إداراتهن إلى للأسوأ ، لا تستطيع المرأة أن تقود الرجل ، فالرجل لا يقوده
الجنس الآخر إلا بالحب وليس من المعقول أن تحب المديرة كل موظفيها ، وبلا شك ولا
ريب سوف يأخذ الكثير منهم هذا إن لم يكن جميعهم ذلك الحب بطريقة أخرى وفكر مغاير ،
وحينها سوف يتصارعون من أجل إرضائها وتعم الفوضى ....
نعم ... نعم المرأة في
منصب قيادي يساوي فوضى .
طرق خفيف على الباب .. أدخلي .. دخلت سكرتيرة الوزير
أحمد وهي شاحبة الوجه .. نظر إليها بهدوء : ما بكِ ؟
تلعثمت بالكلام ولم تعطيه
جميلة مفيدة .
ما بكِ ؟ قالها بعد أن بدأت تبدو عليه علامات الغضب .
لقد اتصل
أخاك وقال بأنه حاول الاتصال بك شخصياً لكنك لم تجب على هاتفك المحمول ولا هاتف
المكتب .
بلعت ريقها وأكملت : وقال أن أخبرك بأن أباك أدخل لغرفة العناية
المركزة في مستشفى المدينة .
نظر إليها ولم يبوح بأي كلمة وانطلق يلم أغراضه من
على مكتبه وانطلق متوجهاً نحو المستشفى .
(
وصل لوحدة العناية
المركزة وتوجه للغرفة التي أدخل فيها أباه .
دخل ونظر ورأى الوجوه شاحبة والعيون
دامعة وهناك بين تلك الأجساد وفي وسطهم بالضبط جثة غطيت بغطاء أبيض اللون من أعلى
رأسها إلى أسفل قدميها .
نظر إلى أخوته وابتسم ابتسامة عريضة ، صعق على أثرها
أخوته وتجمدت الدمعات في أعينهم وغصت حلوقهم بريقها .
لقد رحل ولكن سوف يبقى
بإنجازاته التي سطر بها بماء الذهب أسطورة الكفاح والمثابرة لخدمة وطننا الغالي ،
كم من أجيال خرجت من تحت يديه وصارت شخصيات مرموقة ثابتة الخطى عظيمة الأهداف
والطموح عندما كان يدرس في الجامعة قبل أن يحال للتقاعد ، لقد ثبت أبي عند مبادئه
وقيمه ولم تغريه الأموال ولا المناصب ، وظل يحارب وبشدة كل طرق الانفتاحية على
الثقافات الأخرى من غير قيود وهذا ما سبب له الإحالة على التقاعد المبكر .
إنه
جبل بشري في زمن تحول فيه كثير من البشر إلى ريش تتلاعب بها رياح التغيير
والانفتاحية .
لقد وعيت اليوم كلامه قبل شهور عندما قال سوف تذكر كلامي عندما
تراني جثة هامدة لا حياة فيها .
أبي إنك الحياة إنك القيم إنك العادات إنك
الثبات في زمن التخاذل .
(9)
استلقت أميرة فوق سريرها تقلب صفحات
كتاب الهندسة المعمارية الحديثة وتنظر إلى الصور وتقرأ قراءة سريعة ، فاليوم كان
أول أيامها في الجامعة وبالتحديد في كلية الهندسة ، ولقد تعرفت على فتيات كثر ممن
يحملون بعض أفكارها وفلسفتها واستمتعت جداً بصحبتهن وأكثر ما جذبها فتاة تدعى عبير
بطريقة أسلوبها وتعاملها وطريقة طرحها للمواضيع والذي يتضح فيه أنها ذات خلق ودين
وتربية سليمة وشغلت جل تفكيرها عندما عادت للمنزل ، وأيضاً أخذت جل حديثها عندما
تحدثت مع أخوتها حنان وندى التي تعمل مدرسة للغة العربية في المدرسة الإعدادية ،
وأماني التي تعمل أخصائية اجتماعية في المحكمة الشرعية .
نزلت أميرة من على
سريرها وأخذت تزرع غرفتها ماذا سألبس غداً ؟
وما سوف أضع على وجهي ؟
...
الأمور التي تخص النساء لهن الحرية في عملهن والتمتع بذلك دون منغصات والتي
تأتي تحت راية العادات والتقاليد والتي طبقت على المرأة دون الرجل والذي صار يلبس
ويفعل ما يحلو له حتى أنه دخل في لباسه الشيء الكثير من تصاميم المرأة وحتى في
طريقة المعاملة صار كثير من الرجال لين الطباع كالنساء.
أخذ بها فكرها لكل ذلك
وخاصة عندما فكرت بلباسها غدا والمعارضة الذي سوف تجدها من أخواتها وخاصة أنها وضعت
عينها على لباس لو لبسته لأصبحت فاجرة في نظر من سوف يراها في الخارج وغير ثابتة في
نظر أخواتها .
أميرة خيالها واسع وفكرها انقلابي من الدرجة المخيفة فكم حذرتها
أختها حنان من مثل هذه الأمور ولكنها لا تستجيب .
لا للرجل أو المرأة أولاً ، هي
شعارات تحملها ، وليس لأنها شاذة أو تميل و لو قيد أنملة للشذوذ ليس ذلك ، فأميرة
من المحاربين لكل أصناف الشذوذ الجنسي ، ولكنها شاذة بأفكارها في نظر مجتمعها
ومتحررة جداً من كل القيود وتريد كل بني جنسها أن يعشن ذلك التحرر وهي ما تسميه
الحياة أما الحياة الحالية فهي تسميها الممات .
كل ذلك أجبر أخواتها على عقد
جلسات نقاش حامية معها والتي كانت تدريها حنان بحكم تخصصها في علم النفس وكانت
أماني المتحدثة الأساسية وأما ندى الطيبة والتي تحمل نفساً طفولية فكان دورها ترطيب
الجو بتعديلاتها للمصطلحات وبتفسيرها وإعرابها للجمل وخاصة عندما يشتد النقاش وتثور
البراكين وتبدأ أميرة بالصدام وبرفع الصوت وبالخروج عن المجرى الذي كان يسير وقتها
النقاش .
ولكن كل تلك الجلسات لم تجعل من أميرة غير جبل راسخ يزيد صموداً وقوة
يوماً بعد يوم .
(10)
الرجل والمرأة صراع البقاء أو إن صح صراع
التميز والظهور للأفضل ، فالحياة قامت من ذكر وأنثى ولكنهما في عصرنا وفي بعض
العصور السابقة رفضا هذا التوازن تحت مسميات كثيرة فكلا الطرفين يرى في نفسه
الأفضلية وأنه هو الأولى والأول والوحيد القادر إلى ما إلى ذلك من مصطلحات
.
وهما يعلمان وبشدة أنهما يكملان بعضهما وأن النقص المتواجد عند الذكر يجده عند
الأنثى والعكس .
أنهت أماني حديثها بهذه الفقرة في المحاضرة التي ألقتها في
التجمع النسائي في مسرح المدينة وبلا شك بحضور أخواتها والتي على رأسهم أميرة
المشاكسة والتي حضرت للتجمع دون ارتداء العباءة واكتفت بثوب مطرز ولف رأسها بغطاء
بالكاد أخفى شعر مقدمة رأسها وأسدلت الباقي خلف ظهرها ، ومن وقت دخولها كانت حديث
النساء وكم انزعجت كل من حنان وندى الطيبة من تلك النظرات التي لاحقتهم طوال التجمع
بسبب لباس أميرة .
وعندما عادوا للمنزل صرخت حنان بعد أن رمت حقيبة يدها على
المنضدة والتفت نحو أميرة والتي كانت حينها ورائها : يكفي يا أميرة إلى هنا يكفي
!!
ابتسمت أميرة وقالت يكفي هل هذا الذي استطعتِ قوله أختي حنان بل أمي حنان إن
معادلة التوازن اختلت والبقاء للأقوى والأذكى والأحق ، إما ذكر أو أنثى وسوف تسود
الأنثى العالم بذكائها وفطنتها ، وثم من يحدد ما ألبس وما لونه دام أنه يستر جسدي
فلماذا نحدد اللون والشكل والمضمون ، من هو المتحكم بكل ذلك .
صرخت حنان أخرسي
.. وركضت نحو غرفتها تبكي .
نظرت أميرة حولها منزعجة وتساءلت لماذا غضبت ؟ لم
أقل غير الحقيقة .
فتحت حنان باب غرفتها لتنظر أين أمل وأين مربيتها ، اتصلت على
هاتف المربية ولكن وجددته مغلقاً ، نزلت السلالم بسرعة ، وعادت من حيث توقفت ووجدت
أخواتها وكأنها لم تغادرهم الكل في مكانه صرخت أمل بعد أن وضعت كفيها على خديها أمل
غير موجودة وكذلك مربيتها وهاتفها مغلق ، ابحثوا في أرجاء المنزل .
إمتلء المنزل
الكبير صراخ أين أمل ؟ أين مربيتها ؟انتهى البحث لا وجود لأمل ولا لمربيتها
!!